تاريخي
احتلال مهاباد وإعدام القاضي محمد
حتلال مهاباد وإعدام القاضي محمد
كان هناك خلاف بين الشاه المدعوم من الجيش والأمريكيين من جانب،
وقوام السلطنة والساسة الليبراليين من جانب آخر، على كيفية حل مسألتي
أذربيجان ومهاباد. ففي حين كان الشاه يميل إلى الحل العسكري، كان قوام
السلطنة يعتقد بأن إنهاك تبريز ومهاباد بالحصار الاقتصادي والمفاوضات،
وعزلهما عن الروس، ثم إعادة السلطة المركزية مع إعطاء بعض الحقوق
الثقافية، ونوع من اللامركزية، هو الحل. وفي كانون الأول &1946 استطاع
قوام السلطنة أن يقطع شوطا كبيرا، في هذه الاستراتيجية. ولكن جنرالات
الجيش كانوا يريدون الحل الحاسم.
كما كان محمد رضا شاه يتحين الفرص ليفرض شخصيته وسلطته في
الحكم، ويتحدى قوام السلطنة، ويضع حدا لطموحاته. فبما أنه قد سبق
للجيش الروسي أن أنهى انسحابه من إيران في حزيران 1946، وكان الروس
حريصين على الاحتفاظ بعلاقة جيدة مع إيران من أجل الحفاظ على امتياز
النفط الذي حصلوا عليه في نيسان، لذلك كان الوقت ملائما للشاه للقيام
بهجوم مباغت على الجمهوريتين
ومما زاد كفة اتخاذ الخيار العسكري، هو الدعم غير المحدود الذي كان
يعطيه مستر آلن، السفير الأميركي في طهران، للشاه في اتخاذ الـخيار
العسكري . ففي كانون الأول عام1946، وحينما كان قوام السلطنة لا يزال
يتفاوض مع قادة أذربيجان، أمر الشاه، وبدون علم قوام السلطنة، جيشه
بالهجوم على أذربيجان. فزحفت قوة مقدارها 20 ألف جندي باتجاه زنجان
ومن ثم تبريز. وعلى الرغم من أن الشيوعيين أعلنوا حالة الطوارىء، وعاهدوا
على المقاومة، إلا أنه سرعان ما انهارت معنوياتهم، وهرب قادتهم إلى روسيا.
وهاجم الناس عامتهم، مقرات الديمقراطيين الأذريين قبل دخول الجيش
الإيراني إلى تبريز، وقتل العشرات من الكوادر الشيوعية الأذرية بيد الناس شر
قتلة، وسحل جثة وزير التربية محمد بيريا
كانت هناك أسباب كثيرة لانهيار الشيوعيين في تبريز، ولكن هذا الموضوع
لا يدخل ضمن نطاق هذا البحث. ويبدو أن الروس لم يكتفوا بعدم تقديم
الدعم العسكري لهم، بل أيضا أرسلوا توجيهات إلى قادة أذربيجان بعدم
ذلك له أثناء الضغط على
المقاومة. وكان الشاه واثقا من الدعم الغربي، وتبين
الروس بالانسحاب من إيران، في شهري آذار ونيسان عا 1946. وبعد هجوم
القوات الإيرانية على تبريز طلب السفير الروسي مقابلة عاجلة مع الشاه. فا –
السفير في تلك المقابلة، قائلا: «إن تحركات قوات إيران، باتجا
تبريز تهدد
السلام العالمي». فرد شاه قائلا: وإن عدم حل المسألة هي التي تهدد السلام،
وأرفض سحب القوات». كما عرض شاه رسالة استسلام من حاكم أذربيجان،
نيابة عن الحكومة التي فرت قياداتها. وأضاف الشاه، قائلا: إن الاتفاقية
الروسية – الإيرانية التي حصلت روسيا بموجبها على امتياز النفط عدت قضية
أذربيجان مسألة داخلية
كان سقوط تبريز المفاجىء أمرا غير متوقع في جمهورية كوردستانوأربكت القيادة واضطربت الأمور اضطرابا كبيرا. ويصور لنا هيمن الذي كان
شاهد عيان، أحداث تلك الأوضاع:
ابعد سماع خبر سقوط تبريز، اجتمع الجميع في بيت القاضي محمد،
وكانت معنويات الجميع عالية. وجرى تشكيل مجلس الحرب بقيادة بابا
واتفقوا بالإجماع على الدفاع عن الجمهورية، ولكن في اليوم الثاني هرب قادة
المجلس إلى طهران، وبدأ بعض التجار يشيعون روح الاستسلام بينالناس»
ففي 6 كانون الثاني دعا القاضي محمد إلى عقد مجلس شورى كبير، في
مسجد هباس آغا في مهاباد، لإقرار القرار الذي اتخذه مجلس حرب حكومة
كردستان لمقاومة القوات الإيرانية، بقيادة همايوني، وقوات المرتزقة الكبيرة
المرافقة للقوات الإيرانية، والتي كانت جميعها تقف على أهبة الاستعداد
للهجوم على مهاباد، من مدينة مياندواب القريبة.
واستنادا إلى بلوريان كان هناك حوار ساخن بين مؤيدي الاستسلام
ومؤيدي المقاومة. فخطب قاضي فيهم قائلا: إن أذربيجان استسلمت والجيش
الإيراني في تبريز ورومية، ويقف همايوني بمعية قوات من القبائل الكردية في
مهاباد، ينتظرون منا جوابا. كما أحب أن أعلمكم بأن هناك حشودا للقوات
التركية والعراقية، وإن الروس صامتون، وليس لنا من السلاح إلا القليل، ولكن
بعد أن وضعتكم في الصورة أقول: إن القرار لكم فإما الاستسلام وإما
المقاومة». فأجاب البارزاني قائلا: اليس هناك شعب يريد حقه في الحياة إلا
وقدم تضحيات. ولكن كان هناك آخرون صرخوا قائلين: إن الدفاع بالأيادي
الخالية يعني الانتحار
يبدو أن الاجتماع العام في مسجد هباس آغا لم يصل إلى قرار حاسم.
وبعد أن درس القاضي محمد الوضع المتردي للكرد، دعا قادة الجمهورية
لاتخاذ قرار الاستسلام. وفي اليوم التالي، قام وفد من أعيان مهاباد، من الموالين للحكومة المركزية، من أمثال رحمت شافعي، والشيخ حسن برهان،
وعلي آغا الخاني زادة بزيارة همايوني، ليقدموا له الولاء باسم أهل مهاباد. ثم
أرسل القاضي محمد وفدا، مؤلفا من حاجي بابا شيخ، وسيف قاضي، لمناقشة
شروط الاستسلام، والتمهيد لزيارة القاضي محمد بعد يوم، إذ قام فعلا بزيارة
همايوني، فأكرمه الأخير. وكان همايوني ينوي جلب قوات المرتزقة الكرد
لنهب مهاباد، فأقنعه القاضي بالعدول عن هذا الرأي. وفي15 كانون الثاني
دخل همايوني مهاباد، بدون أية مقاومة من الكورد، وبذلك أسدل الستار على
أول حكومة كردية مستقلة في العصر الحديث، وعند وصوله وجد أن معظم
الناس في المدينة قد أغلقوا أبوابهم. ولم يكن هناك الترحيب الذي استقبلت به
القوات الحكومية في تبريز. وحال وصوله المدينة توجه همايوني إلى بيت
القاضي، وتناول الغداء معه هناك. ولكن بعد يومين، وحينما كان القاضي
محمد جالسا في مكتبه، اعتقلته القوات الإيرانية بمعية28 من قادة الجمهورية.
وأحيل المعتقلون إلى محكمة عسكرية وحكم عليهم بالإعدام، وجرى تنفيذ
الحكم بالقاضي، وأخيه صدر القاضي، وابن عمه سيف القاضي، في ساحة
(جوارجرا) في مهاباد في30 آذار عام1947. وأقدمت القوات الإيرانية على إعدام
مجموعات عديدة من كوادر (ج.د.ك.) الإيرانية في المدن الأخرى
وبدأ عهد من الاستبداد والظلم في كوردستان من جديد. فدامت فترة
الحرية بين استبداد رضا شاه وبداية عهد ابنه محمد رضا شاه فقط ll شهرا،
وكأن الشعب الكردي كان في حلم جميل، أيقظته منه صرخات الواقع المحلي
والإقليمي والدولي المر.
إن هذا العرض الموجز لكيفية سقوط مهاباد،
لماذا لم تقاوم جمهورية كوردستان القوات الإيرانية المهاجمة؟
ولماذا سلم القاضي محمد نفسه للجيش؟
ولماذا أعدم القاضي محمد وكيف؟
ولو ألقينا نظرة فاحصة على خطاب القاضي محمد في مسجد هباس آغا المذكور سابقا،
نجد أنه يشير إلى عوامل أساسية متعددة؛ منها: سقوط تبريز، خذلان الروس
له، جيش من المرتزقة الكرد الذين جاؤوا مع الإيرانيين لنهب مهاباد، عدم
وجود السلاح والعتاد الكافيين لمثل هذه المواجهة الكبرى، والحشود التركية
والعراقية على الحدود. لا شك في أن كل هذه العوامل ساهمت، بقدر أو
بآخر، في اختيار سبيل الاستسلام، ولكن لا بأس من محاولة تحديد العامل أو
العوامل التي كانت حاسمة في سقوط الجمهورية
رغم إشارة البعض إلى خطأ القاضي محمد، بعدم تأسيس الجيش
النظامي، وعدم وجود السلاح الكافي، وعد هذا السبب عاملا مهما في سقوط
الجمهورية، إلا أن للكاتب تحفظا على هذا الرأي، وذلك لأسباب عدة:
أولا: لم يكن عامل السلاح وحده، أو وجود الجيوش النظامية في تاريخ
الحروب عوامل أساسية في الانتصار أو الهزيمة، فكم من جيوش
نظامية
ومزودة بأحدث الأسلحة انهارت أمام قوات المقاومة غير النظامية، في التاريخ
الحديث والقديم!
ثانيا: في الحروب تؤدي المعنويات والعقيدة التي تولد المعنويات،
والقيادة أو القائد الملهم، دورا أساسيا في صنع النصر، وهذا ما لم يتطرق إليه
الباحثون الذين تناولوا أسباب سقوط الجمهورية بإسها
الحقيقة لم يكن الجيش الإيراني المهاجم كوردستان، بذاك الجيش
في
النظامي القوي، ولم يكن يملك حتى السلاح القوي. فقد وضعت إيران 20
ألف جندي للهجوم على جمهوريتي كوردستان وأذربيجان. وكان 3000 آلاف
رجل من هذه القوة، ممن يسمون بجريك (الجيش غير النظامي). وخصص
نحو نصف هذه القوة للهجوم على كوردستان، وكانت معنويات هذه القوة
والقوات الموجودة في الحاميات المحاصرة، في كردستان، منهارة جدا. كما،
وكانت القوة التي يقودها همايوني، منهكة معنويا، فقد كانت تعتقد أن القاضي محمدا سيختار خيار المقاومه
كانت جمهورية كوردستان تملك نحو 10 الاف مقاتل، وكانت تقاتل في
أرضها دفاعا عن شعبها، وكانت تملك حليفا لم يخنها على مدى الأجيال،
وهي جبال كوردستان الوعرة. ومن الجدير بالذكر، أن القوات البارزانية التي
كانت في حدود ألف مقاتل استطاعت أن تقاوم القوات الإيرانية، في عدة
جبهات، ولمدة عدة أشهر، وألحقت بها غير هزيمة، قبل رحلتها الأسطورية
إلى الاتحاد السوفيتي. وهذا ما دفع (نجفقلي) إلى القول: «إن القوات البارزانية
حاربت الجيش الإيراني، حربا عوض عن سقوط مهاباد». علما أن القوات
البارزانية، كانت تحارب في ظروف في غاية الصعو به. حيث تفشى بين
البارزانيين الجوع والمرض، وكان عليهم أن يحسبوا حسابا لثلاثة آلاف طفل،
أضف إلى ذلك أن بعض
وامرأة، وشيخ، من البارزانيين المهاجرين معهم.
القبائل المرتزقة، من الكورد، كانت تلاحقهم وتطعنهم من الخلف .
فماذا كان سيحدث لو صمدت قوات جمهورية كوردستان، ولو لفترة واتبعت نهج
البارزانيين؟ علما أن مصطفى البارزاني قد جاء إلى مهاباد، قبل تسليم القاضي
محمد نفسه للإيرانيين بأيام قليلة، وقال له إنه مستعد أن يواصل المقاومة
الكوردية، وتحت قيادته .
نرى أنه لو اختار القاضي سبيل المقاومة، لأنهك الجيش الإيراني. ثم
كان من الممكن أن تستخدم المقاومة الكوردية قدرتها على البقاء، لفترة، لفرض
حل سياسي على طهران. ولم يكن ذلك مستبعدا جدا، لأن السلطة المركزية لم
تكن قوية، وكان هناك صراع مكشوف على السلطة، بين الشاه وقوام السلطنة،
كما أن المجلس الإيراني قد رفض المصادقة على امتياز النفط للروس، في عام
1947، وبذلك ألغي هذا الامتياز، وكان بإمكان المقاومة الكوردية أن تستخدم
هذا الاضطراب، في العلاقات الروسية – الإيرانية، لصالحها
يصف الدكتور شمزيني زيارة القاضي، إلى مياندواب بالعبارات التالية:
«وبهذه الطريقة المشينة استقبل القاضي محمد وقادة مهاباد جيش إيران المحتل،
وسلموا أنفسهم بطريقة طوعية، ولم يطلق هؤلاء ولو طلقة. وهذا عمل فظيع،
ومخز. ولم تكن كردستان قد رأت انتكاسة من قبل هذا…
وهذا دليل على
أن البرجوازية الوطنية تفضل مصالحها على المصالح الكوردية العامة»
ونجد
في لقاء الزعيم الكوردي الأستاذ جلال الطالباني، مع الأستاذ علي كريمي،
صدى لرأي شمزينى
هذا. حيث يقول الطالباني: «كيف يليق لرئيس دولة أن
يذهب لاستقبال قادة الجيش الغازي لبلده، ويذبح له القرابين». لسنا هنا بصدد
إيجاد المسوغات للقاضي محمد، فقد أشرنا سابقا، أننا كنا نحبذ لو أن القاضي
قد اختار خيار المقاومة، ولكن الحقيقة ينبغي أن تقال؛
أولا: إن القاضي لم
يكن رئيسا لدولة مستقلة، فلقد كان يصرح علنا، وبملء فمه، أنه يعد كوردستان
جزءا من إيران، وأنه يريد تحقيق حقوق الكورد فقط، بنوع من الإدارة الذاتية
ثانيا: فإن مصطفى البارزاني في عام 1975 كان
في موقف لم يختلف كثيرا عن موقف القاضي محمد، فرغم ما عرف عن
البارزاني من الجرأة والشهامة، إلا أنه اضطر إلى قبول الأمر الواقع، وإطاعة
الأمر الصادر له من أمريكا والشاه، في إعلان انتهاء ثورة أيلول ضد النظام
الأستاذ الطالباني، إلى
العراقي. وفي 1991 اضطر قادة الكورد، ومن ضمنهم
زيارة صدام حسين ومصافحة يده الممرغة بدماء الشعب الكوردي، في أبشع
حرب إبادة، يشهدها تاريخ الكورد، والجلوس معه على طاولة المفاوضات غير
المجدية، والمضرة بالحركة الكوردية في رأي الكثيرين. هناك
لع من الإجماع
بين معاصري القاضي محمد بأنه كان في البداية مع خيار المقاومة، وعدم تسليم
مهاباد . ولكن الروس خذلوه إذ غادر أسدوف مهاباد، وكانت هذه إشارة
للكورد، بأنهم سيواجهون الجيش وحدهم، كما خذلهم بعض قادة مهاباد
وأعيانهم. ولكن أول من انهار هو صدر القاضي الذي هرب إلى قوام السلطنة
لإنقاذه، إذ كان صدر القاضي بخلاف القاضي محمد رجلا مهزوزا
(وسنأتي إلىتفاصيل انهياره قبل الإعدام).
كما استطاع التجار وأصحاب المصالح، من أغنياء مهاباد، ترهيب الناس ونشر روح
الخذلان بينهم. وأخيرا لم تكن قيادة
(ح.د. ك.) متفقة على رأي واحد. وكان القاضي يريد، وفق اجتهاده، إنقاذ.
الكورد، وخاصة أهل مهاباد، من النهب، والسلب، وهتك الأعراض، والحرب
الأهلية بين الكورد التي كان قادة الجيش الإيراني، ولاسيما العقيد علي الغفاري،
يخططون لها داخل مهاباد
باختصار أدرك القاضي أنه لم يكن لمهاباد المقومات التي وجدت في
مدينة الرسول في عشية هجوم الأحزاب عليه، في أثناء معركة الخندق،
تشابه التحديات. إذ كان المسلمون محاصرين من جميع الجهات،
رغم
وطعنهم اليهود من الخلف ومن الداخل. وإذا كانت لمهاباد قوة عسكرية
وأنصار في خارج مهاباد، فإنه لم يكن للمسلمين قوة خارج المدينة المنورة.
ولكن وجود الإيمان بالقضية التي يقاتلون من أجلها، والعقيدة القوية الممجدة
للشهادة والموت في سبيل الله، والوحدة بين المسلمين داخل المدينة أهلت
المسلمين للدعم الرباني، ثم النصر.
أما الفكر القومي المجرد من عقيدة تدعمه، وتوجهه، فيعد جدارا هشا لا
يصمد أمام رياح التحديات. وهذا ما يمكن أن نلمسه في مهاباد، إذ كان
القاضي محمد، وبعض قادة الجمهورية، يملكون عقيدة إسلامية راسخة، ورغم
وجود المقاتلين الكورد المستعدين للتضحية بحياتهم للدفاع عن الجمهورية، إلا
أنه لم تكن هناك النخبة القيادية المؤمنة، المستعدة للجهاد حتى الموت. فكثير من قادة(ح.د. ك.) من أمثال عبد الله المدرسي والملا حسن مجدي ووجهاء
. مهاباد، عدوا المقاومة انتحارا.
وفضل أعيان مهاباد الذل والهوان في ظل القوات الإيرانية، على المقاومة
التي لم تكن تؤمن النصر المؤكد. وبدلا من أن يختار قادة مهاباد أن يحولوا
مدينتهم إلى ستلينغراد ثانية، فقد اختاروا ما اختاره أعيان باريس، في أثناء الحرب العالمية الثانية، وهو تسليم باريس لجيش هتلر، بدلا من أن يقاوموا
الجيش الألماني النازي، لأن المقاومة كانت، من المحتمل، أن تؤدي إلى دمار
معالم باريس السياحية.
ولكن حين أجبر القاضي محمد، بعد الشورى الخاصة مع قيادة
الجمهورية في بيته، والشورى العامة مع أهل مهاباد في مسجد عباس آغا، على
تسليم مهاباد للجيش الإيراني. لم تحركه مشاعر الخوف والجبن، بل كان ذلك
أبرع برهان على احترامه وتقديره لإرادة الشعب، حتى لو كان مخالفا لرأيه،
ويكلفه حياته، وهذا يعد منتهى الديمقراطية. كما يعد ذلك برهانا صارخا على
أن عالم الدين المسلم المسيس ـ إن صح التعبير ـ يمكن أن يكون ديمقراطيا،
كما يمكن ذلك لأي أفندي، درس في الجامعات العلمانية في كوردستان أو في
الخارج. وإن الديمقراطية أو الاستبداد ليسا حكرا على شريحة اجتماعية دون
أخرى. وإن الأسلوب الشوروي (الديمقراطي) للقاضي محمد جدير بالدراسة،
من قبل المختصين بالسياسة، كعلم، ومن قبل الحركة الكوردية. علما أن هذا
الأسلوب في اتخاذ القرار شرعه الرسول (ص) لأول مرة، وسار عليه الخلفاء
الراشدون، رضوان الله عليهم أجمعين، من بعده.
إن محاكمة القاضي محمد واستشهاده يبرزان جوانب أخرى من شخصيته،
ومن عقلية الجيش الإيراني، وجوانب خفية من القضية الكوردية. فرغم أن
الجنرال همايوني قد وعد القاضي في لقائهما في مياندواب، بأنه لا ينوي
الانتقام من أحد في مهاباد، فبعد أيام من وصوله إلى مهاباد، اعتقل القاضي
محمد وسيف قاضي، و38 من قادة الجمهورية. وكان صدر قاضي في طهران
يحاول أن يحصل على قرار، لإطلاق سراح القاضي فكان يحاول أن يحمي
نفسه من الاعتقال، بدعم من قوام السلطنة. فأرسل همايوني بكتاب لجلبه إلى
مهاباد لاستجوابه، فوعد قوام السلطنة صدر قاضي، بأنه سيطلق سراحه بعد
التحقيق. وحين جلب صدر قاضي إلى مهاباد، أصر الضابط على أن عنده
أوامر بإعادته، فأعطى همايوني له وصل الاستلام، وقال له: إن أوامر اليوم
تقول بأن صدرا سيبقى عندنا. عبر صدر قاضي لقوام السلطنة عن خوفه، من
الذهاب إلى طهران، فقال له الأخير: ااذهب فإن العسكر أقوياء، وسيأخذونك في كل الأحوال . هذا دليل آخر على وجود خلاف صريح بين الجيش
والحكومة، وعلى أن ملف كوردستان كان قد أعطي للجيش كليا. وكان همايوني
وزملاؤه يريدون أن يصفوا الحساب مع الكورد، ليس على أساس القانون، بل
على أساس الأحقاد والهزائم التي لحقت بهم في كوردستان. وكانوا يستلمون
الأوامر مباشرة من رازمارا، قائد الجيش المتحالف مع الشاه ضد قوام السلطنة.
ويمكن ملاحظة الحرص الشديد للعسكر على عدم إفلات القاضي محمد من
الإعدام. وهذا دليل آخر على أنه كان هناك أناس من أعلى المستويات، خاصة
رازمارا والشاه، مصرين على التخلص من القاضي. يقول همايوني: الما زاراني قاضي محمد في مياندواب، قبل دخول الجيش إلى مهاباد، وسمحت له
بالعودة، كتب رازمارا برقية شديدة اللهجة إلي يحتج فيها على سماحي للقاضي
وكما أعطانى عائلة
بالعودة إلى مهاباد، وكان المطلوب مني أن أعتقله. .
القاضي مبلغا من المال فرفضته. ووصلت لنا عدة برقيات تطلب إطلاق سراح
القاضي. وأحيانا كانوا يطلبون إلينا في طهران إرسال الأخوة القاضي إلى هناك
ويطلبون إلينا إطلاق الرصاص عليهم في الطريق. وكنت ضد كل هذه الأوامر
لا لشيء إلا لكوني على قناعة بأنهم سيهربون في الطريق، وهناك احتمالات
أخرى في طهران.. »
أما فيما يتعلق بالمحاكمة، فإن كيفية محاكمة القاضي، وتركيب الهيئة
تعبيرا عن عدم شرعيته. فأنيطت رئاسة المحكمة إلى العقيد
التحكيمية، كانا ”
فارسي نيا، وأصبح العقيد فيوضي ـ رئيس أركان قوات كوردستان ـ مدعيا عاما،
وكان هناك أعضاء آخرون. هناك ملاحظة منصفة أبداها نجفقلي، بقوله: «إن
أعضاء المحكمة كانوا ممن حاربهم القاضي محمد، خلال السنوات
الماضية»، وطلب إلى القاضي محمد اختيار محام دفاع عنه، من أحد الضباط
فقال قاضي بأنه لا يقر بشرعية هذه المحكمة العسكرية، لأنه مدني.وفي خاتمة المطاف، وحين أجبر على اختيار محام، اختار القاضي بعض
الضباط الحقوقيين الذين كان يعرفهم في طهران. ولكن المحكمة طلبت إليه
اختيار ضباط من الثكنة العسكرية في مهاباد، فرفض ذلك. وقال رئيس
المحكمة وهو يستخف بالقاضي: الماذا لا تختار محامي الدفاع من لندن». فرد
عليه القاضي «احترم نفسك هذه قاعة أنتم تسمونها محكمة. افعلوا ما تريدون،
لكن لو كانت لي سلطة بلندن، لما وصل الحال بي إلى ماهو عليه
اليوم. .
كانت المحكمة تريد أن تنهي أعمالها بأقصى سرعة ممكنة، لأنها كانت
صورية، وقرار الإعدام كان قد أعد سلفا من قبل الشاه، بعد استشارة
الأمريكيين. وقد قال القاضي في صدد الدفاع عن نفسه:
امن هذه الزنزانة المعتمة أعلن للدولة المركزية بأنها هي المسؤولة، أقول
بأنى لست مذنبا، بل أنتم المذنبون، فلو كانت للدولة في السنوات الأخيرة قوة
ومقدرة ورغبة في إرسال قواتها إلى هذه المنطقة، للتعبير عن سلطاتها،
والسيطرة على الأوضاع، لما اشتد ضغط الأجانب على المنطقة… ولما
اضطررت إلى أن أقدم على هذا العمل للمحافظة على حياتي وحياة أسرتي.
لقد أوصلت من ناحيتي كل ما هو ضروري إلى كبار المسؤولين، عما هي عليه
الأوضاع. لكن أنتم تظلموننا، وتمارسون القوة ضدنا. لقد سلمت الدولة
الشاهنشهاية إرادتها مرات ومرات، راضخة لضغط السوفييت، وأصبحت مؤتمرة
بأمرهم، بالرغم من وجود كل هذا العدد من السفارات الأجنبية
في طهران،
وأمام أنظار الدول المختلفة، وإنها امتنعت عن إرسال القوات إلى المناطق
المختلفة، من الوطن، فوضعت أموال المواطنين وأرواحهم، وثرواتهم، بين
ونحن أيضا اضطررنا… أنا الذي لم أملك قواتا ولا
أيـدي الروس. . ،
جيوشا، اضطررت إلى أن أنفذ أوامرهم، وكنت مجبرا على ذلك»
يقول كيومرس: إن الجرائم التي اتهم بها القاضي محمد، والتي بموجبها
أصدر قرار إعدامه، هي ما يلي :
1.التجارة بالنفط مع روسيا بنسبة 7.51 لروسيا و49/، دون إعلام الدولة المركزية، والحصول على الموافقة الرسمية
2.محاولة تغيير خريطة إيران، وفصل الولايات الكوردية عنها.
3.استحداث علم خاص بجمهورية كردستان، يحتوي على شعار المطرقة
والمنجل، على شاكلة العلم الروسي.
4.صك النقود لحكومة كردستان باسم كردستان على شاكلة الروبل الروسي.
5.تحديد خريطة كوردستان الكبرى التي تشمل أجزاء من العراق وتركيا وإيران
وسورية.
6.جلب أجانب إلى إيران، خاصة مصطفى البارزاني وإسكانهم بدون موافقة
الحكومة المركزية.
7.تهديد الشاه، وإعلان الحرب، وتحريض الكورد ضده.
8.عقد اتفاقيات مع الحكومة الروسية، والتعاون معها ضد إيران.
9.إعلان استقلال كوردستان واحتلال جزء من أراصي إيران، باسم كوردستان.
10.إرسال بعثات إلى روسيا، وزيارة باقروف، وإجراء المباحثات معه.
11.اعتقال موظفي الدولة وقتلهم.
ويضيف كيومرس: ارغم أن المتهمين دونوا مذكرة الدفاع عن أنفسهم، بكل دقة، وردوا على تلك الاتهامات في 14صفحة وقدموها في الجلسة الأولى لمحكمة التمييز، وطالبوا بإثبات الاتهامات، إلا أن طلبهم ذلك، بقي مدة ثلاثة
أشهر في المحكمة الميدانية، في قيادة الجيش، كما أغلق الملف في مهاباد. .
الذلك فإن محكمة التمييز شكلت من قبل الجيش، ووافق عليها الشاه،
وأوصاهم بتأكييد قرار المحكمة الميدانية الأولى. فوصل أعضاء محكمة التمييز
إلى مهاباد في24 آذار. وكانت عضوية المحكمة مؤلفة من العقيد نيكوزادة بصفة
المدعي العام، والعقيد رجب عطا رئيسا، والملازم حسين صالح والملازم نبوي محاميين للدفاع. ينقل لنا كيومرس وقائع مثيرة من المحكمة، والتي تسلط
بعض الضوء على طبيعة القاضي، وأعدائه :
بما أن القاضي محمدا كان مصرا على رد جميع اتهامات المحكمة، صرخ
المدعي العام بوجهه، وكلمه بغضب. فغضب القاضي، ورد على المدعي
العام ، باللغة الفارسية، وقال: «إنك تجتر ما اجتر من قبلك» وقال له أيضا:
«إذا لم يكن لكم دين، ولا تؤمنون بالله ولا تؤمنون بالحساب والكتاب، فلتكن
وبما أن هذه الكلمات تعد إهانة كبيرة عند الفرس،
لديكم ذرة من المروءةا. . .
فلقد غضب المدعي العام، وقال: أنتم الكورد لكم صفات الكلاب»…
فانتفض القاضي في وجهه، قائلا له: أنتم الكلاب، وأنتم من لا شرف له،
ولا حياء، لأنكم لا تحترمون أنفسكم، ولا الناس، أو القانون، لأنك يا عديم
الشرف، ليس بإمكانك إلا إصدار حكم أصدره عديم شرف آخر، وأنت
وبما أنني بريء، وأقتل من أجل حرية شعبي، فتلك نعمة من الله،
تنفذه. . .
وأفخر بهذا الموت الشريف».. .
وفي إجابته عن سؤال حول السماح للأجانب
مثل الملا مصطفى بدخول الأراضي الإيرانية، رد القاضي: اليس الملا مصطفى
أجنبيا، بالنسبة لكوردستان، لأن كوردستان بيت كل كوردي، ثم أن أحدا لم يطلب
منه المجيء، بل إنه تحول من جزء من بيته إلى جزء آخر. . . أخرج العقيد
نيكوزادة، الذي رد عليه القاضي محمد قبل ذلك بشدة، قطعة قماش من
لونها أحمر، وأبيض، وأخضر، وعليها شعار المطرقة والمنجل، وقال
حقيته ،
للقاضي محمد: أليس هذا العلم لحكومتكم وتشكيلاتكم.!» ثم بصق العقيد
نيكوزادة على العلم، ووضعه تحت قدميه… فقال القاضي محمد ردا على
ذلك التصرف: «أولا، ليست هذه راية كوردستان أبدا، لأن رايتنا ليس عليها
شعار المطرقة والمنجل، إن تصرفك يدل على قصور عقلك
وسعورك.
فلتطمئنوا. إن راية كوردستان لن تصلها أياديكم، حتى تدنسوها، وسيأتي اليوم
الذي ستخفق فيه تلك الراية على هذا المبنى الذي أحاكم فيه. لقد سلمت راية
كوردستان، كأمانة لملا مصطفى البارزاني، وسيأخذه من جيل إلى آخر.
ان نطرة متفحصة إلى التهم الموجهة ضد القاضي محمد، وخاصة تلك
المتعلقة بإعطاء امتياز النفط للروس، وصك النقود، وقتل موظفي الدولة
واعتقالهم تدل على أنها، كما وصفها القاضي محمد، عارية عن الصحة،
وبعيدة عن المنطق. وإن هذه التهم أعدت بشكل سريع من قبل الضباط في
كردستان، لتشويه سمعة القاضي وتخويف الشاه والأمريكيين منه. كما أن وقائع
الجلسة تبين النظرة الشوفينية الفارسية تجاه الكرد. والغريب هنا أن القاضي
يتهم بجريمة إعطاء امتياز النفط للروس. فإذا كانت تلك جريمة، فمن
الأولى أن يحاكم رئيس الوزراء قوام السلطنة الذي أعطى الروس، بالفعل،
امتياز النفط، أو القاضي الذي لم يعرف شيئا عن الامتياز المذكور إلا من خلال
الصحافة. ولكن رغم كل هذا، وكما كان متوقعا، صادقت محكمة التمييز على
قرار المحكمة الأول.
والسؤال الذي يتبادر إلى ذهن القارئ هو: لماذا أصرت الحكومة الإيرانية
على إعدام القاضي محمد، وقادة(ح.د. ك.)، وكوادره؟.
وهل كان القاضي محمد يعرف مسبقا بأنه سيعدم؟.
من الجدير ذكره هو أن اللواء همايوني قد
وعده بأن الحكومة لا تنوي الانتقام من أحد. يقول نجفقلي: إن همايوني كانت
له خطة مسبقة لاعتقال وإعدام القاضي محمد وإخوانه، وإعدامهم، ولكنه حين
دخل مهاباد كان الوضع الأمني غير مناسب، إذ كانت القوات البارزانية تستقر
على مسافة، لا تبعد كثيرا عن مهاباد. فأراد همايوني إزالة خطر البارزانيين
أولا، ثم البدء بتصفية الحساب مع أهل مهاباد. فإنه بعد وصول همايوني إلىمهاباد، جلبرئيس عشيرة قرة باباغ الأذرية، الموالية للحكومة، وذات العلاقة الجيدة البارزانيرسالة من الملا مصطفى البارزاني يطلب فيها اللقاء مع همايوني، فوافق على طلبه، ودعا البارزاني إلى أن يرسل وفدا للحديث معه. فوصل ميرحاج لهذا الغرض فورا إلى مهاباد. ثم
تبعت، ذلك، زيارة الملا مصطفى بنفسه إلى همايوني الذي عذ هذه الزيارة مسألة في غاية الأهمية، لأنها كانت تخدم أهدافه. فعمد همايوني إلى الالتقاء بميرحاج في المكان نفسه الذي كان يلتقي فيه برؤساء القبائل الكوردية، ووجهاء مهاباد، حتى يوحي للبارزانيين،
من جهة، بأن الكورد في مهاباد دخلوا طاعة الحكومة، ومن جهة أخرى يوحي لرؤساء القبائل وأهل مهاباد، بأن البارزانيين في طريقهم إلى الاستسلام للحكومة
أيضا، ولا خيار أمام أهل مهاباد إلا الطاعة المطلقة للحكومة.
وبعد أن لعب هذه اللعبة اتفق على إرسال الملا مصطفى إلى طهران للتباحث مع السلطة المركزية، ليطمئن على سيطرته الكاملة على مهاباد. لذلك
أقدم على اعتقال الأخوة من عائلة القاضي، و30 شخصية قيادية في جمهورية
كوردستان. يقول نجفقلي: اكان همايوني غاضبا على القاضي محمد، لأنه .
له بأن الأخير كان يخطط لمقاومة الحكومة، ولم يقطع اتصالاته مع القوات
البارزانية، حتى بعد دخول القوات الإيرانية إلى مهاباد»”كان إعدام القاضي محمد مطلب ضباط الجيش الإيراني، ويبدو أن الشاه
كان يشارك العسكر في هذه الرغبة. وكان الجنرال رازمارا، المقرب من الشاه،
يحقد كثيرا على القاضي محمد، ويصر أيضا على إعدامه. فهو الذي كان يثير
مخاوف الشاه من الكورد والشيوعيين، وهو الذي كان ينقل تقارير غير حقيقية
عن علاقة القاضي في السجن بالبارزانيين، من أجل تعكير الأجواء. كما كان رازمارا مهندس مؤتمر روسا العشائر الكوردية في طهران، في كانون الثاني عام1947، والذين أحضروا إلى هناك من أجل تكريمهم ظاهريا، لدى الشاه، وإعطاء النياشين البطولية لهم. ولكن في الواقع كان هدف رازمارا هو استغلال هذه المناسبة، من أجل دفع رؤساء العشائر للمطالبة بتنفيذ حكم الإعدام الصادر بحق القاضي محمد. كما طلب رازمارا من ضباط الجيش إعداد التماسات خطية
، من رؤساء العشائر الكوردية، تطالب بإعدام القاضي محمد»
علما بأن عمر خان، وبعض رؤساء العشائر الكردية، كانوا يهددون بتفجير
الأوضاع في كوردستان، في حالة إعدام القاضي محمد. فناقش السفير الأمريكي في طهران مع الشاه مسألة إعدام القاضي، ونصحالشاه بالتأني والصبر قبل الإقدام على تنفيذ حكم الإعدام. وكان رد الشاه هو أن مسألة إعدام القاضي محمد مطلب كل رؤساء العشائر الكوردية. وقد أجرت القنصلية الأمريكية في تبريز بعض التحقيقات، حول مسألة إعدام القاضي محمد والآثار المترتبة
عليها. وأكدت التقارير أن رازمارا هو الذي دبر كتابة هذه التقارير، من خلال
عمليات الترهيب والترغيب وحتى التزييف
وهناك ربط واضح بين إعدام القاضي محمد والمعارك التي اندلعت بين
الجيش الإيراني والبارزاني. فالهزائم العديدة والمذلة للجيش الإيراني، على يد
البارزانيين، أدت إلى أن يكون إعدام القاضي، بالنسبة لهم متنفسا، وروحا للانتقام من البارزانيين . كما أن احتمال قيام البارزانيين بعملية عسكرية، لإنقاذ حياة القاضي بإخراجه من السجن كان يقض مضاجع القادة العسكريين الذين يدعي بعض الكتاب
أن القاضي محمدا، لم يتوقع إعدامه، وكان يأمل أن يستطيع أخوه صدر
القاضي، من خلال علاقاته، أن يضمن إطلاق سراحه من السجن. وكما كان
هناك صراع خفي بين قوام السلطنة والشاه، والذي كان في الواقع صراعا بين
برطانيا وأمريكا، فاختار القاضي محمد وأخوه أن يكونا مع قوام السلطنة والإنكليز، فأخطأوا تقدير الحسابات. لا يمكن أن ينكر المرء بأنه كان هناك
صراع من هذا القبيل في إيران. ولكن في الحقيقة لم يكن هناك أي اختلاف جوهري بين أمريكا وبريطانيا بالنسبة للسياسة المتبعة في كوردستان
يورد الأستاذ مسعود البارزاني في كتابه، نقلا عن والده مصطفى
البارزاني، أن الأخير حاول المستحيل من أجل إقناع القاضي محمد لمصاحبته
إلى خارج مهاباد، لأن الفرس أو العجم سينتقمون منه شر انتقام. ولكن
القاضي ألخ على عدم ترك مهاباد، لأنه وعدهم أن يكون معهم في السراء والضراء . ويؤكد هيمن هذه الحقيقة أيضا بقوله: إنه سمع القاضي يقول:
إنني أعرف أني سأقتل، ولكني أريد أن أبقى وفيا، لأهل مهاباد، وألا أتركهم
في أيام المحنة. وينقل كيومرس عن القاضي محمد، قوله للمحكمة: الا تعتقدوا أني لم
أكن أعلم بهذه الحالة والمصير. كنت قادرا في أية لحظة على عبور الحدود.
ولكني فضلت التضحية بحياتي من أجل الكورد، وهذه كوردستان أرضي وفيهاقبور أجدادي»
ويورد مصطفى (نه له مووتى) تفاصيل دقيقة عن إعدامهم. فحال انتهاء
وقائع محكمة التمييز أعيد القاضي محمد وأخواه إلى السجن، الذي كان في
ثكنة عسكرية، قريبة من مهاباد. وجاءت الأوامر، من طهران، بتنفيذ الإعدام بهم فورا. وطلب إلى أعضاء المحكمة في الليلة نفسها مغادرة مهاباد، في
الساعة الحادية عشرة ليلا. وفي الصباح الباكر قيل للقاضي محمد وأخويه: إن
الدولة قررت إرسالهم إلى طهران، وبعد ساعة ستتحركون. سعد الأخوة بهذا
الخبر، وتعانقوا فيما بينهم، وبدؤوا بجمع أمتعتهم . ووفق الخطة وضع كل واحد منهم داخل سيارة، وجلبوا إلى مركز مهاباد
سرا. وحين دخل القاضي محمد الصالة المعدة له، وجد ضابطا عسكريا من
الطب العدلي وملا (عالم دين) من مهاباد ونسخة من القرآن. فهم القاضي
محمد فورا أنه أحضر لتنفيذ حكم الإعدام فيه. فطلب القاضي إلى الملا
الكردي أن يكتب وصيته، قال: لا أعلم الكردية، فقال القاضي: وهذا هو الشر
الذي ابتلي به الكرد، أن أبناءه لا يعرفون الكتابة بلغتهم الأم. فأملى القاضي
على الملا الوصية بالفارسية، والتي كانت طلبا عاجلا إلى الكرد بالتمسك
بوحدة الصف، كما أوصى أهله بتخصيص بعض أمواله للمدارس والمستشفيات
المخصصة للكرد. ثم أمضى القاضي محمد ساعتين ونصف الساعة في صلاة
القيام .
وحين أنهى صلاته جاء إليهم، وقال لهم إنه مستعد للإعدام، ولكن
نصحهم بأن الإعدام شنقا في الإسلام مكروه، واقترح الرمي بالرصاص بدلا من
ذلك. ولكن طلبه لم يتحقق فاتجه القاضي نحو المشنقة بكل هدوء ووقار،
وصرخ قبل إعدامه(( تحيا كردستان)). ولما وصل سيف القاضي مكان الإعدا ، ورأى جثة القاضي محمد معلقة صعد هو الآخر إلى المشنقة بكل وقار وصرخ
قبل أن يعدم «عاش الرئيس القاضي محمد». وفي الساعة الخامسة، جلبوا صدر
القاضي. فحالما رأى المشانق انهار، وبدأ يبكي ويقبل أحذية الجنود الإيرانيين .
فصرخ بوجهه الملا الكوردي ااسمع إن هؤلاء الجنود، وأنا غير قادرين على إنقاذك، وإن الحكم هو حكم المحكمة فتصرف كرجل»
وهكذا انضم القاضي محمد مع أخويه إلى قافلة الشهداء من أجل الحق،
ليلتحق بإخوانه الشهداء من العلماء الأفاضل كالشيخ عبدالسلام البارزاني،
والملا سليم، والملا خليل المنكوري، والشيخ سعيد بيران، وهم الذين يمثلون
دليلا صارخا على أن الإسلام في كوردستان، كان ولا يزال ذخرا غنيا للكورداية
تى، ومحركا قويا للمطالبة بالحقوق، والاستشهاد من أجلها، إن تطلب الأمر
ذلك.