الوجود الكردي في شمال سوريا : منطقة جبل الأكراد (عفرين)
أ – فترة الخلفاء الراشدين 636-660م :
وصل العرب المسلمون إلى مناطق شمالي سوريا في خلافة عمر بن الخطاب 634-644م بقيادة أبي عبيدة بن الجراح. وتمكن أحد قواد جيش المسلمين “عياض بن عبد غنم” من فتح انطاكية بعد قتال شديد مع حاميتها، وأخذ الجزية منهم سنة 636م. ثم تحولت قوات المسلمين شمالا نحو مناطق ج.الكرد وسيروس، كما يقول البلاذري /ص163/ عن ذلك: ((إن خيول أبي عبيدة فتحت قرى الجومه، … وانطاكية سنة 637م، وسار نحو قورس ” نبي هوري” وفتحها صلحا بموجب اتفاق عقد مع راهبها خارج المدينة في قرية “شرقينا ، وغلبت على جميع أرض قورس…)). واستمرت تلك القوات في الصعود شمالا بقيادة “حبيب بن مسلمة الفهري”، فاستولى على مدينة الجرجومة “مراش” على جبل “اللكام” سلماً. وهكذا استولى المسلمون على منطقة سيروس سنة 637م، بعد التنويه بأن اسم سهل “جومه” هو نفسه وقتئذ، وكان فيه قرى مسكونة حينها.
ب – في العهد الأموي 660-750م :
لم تجرِ أحداث هامة في هذه الفترة في مناطق مثلث ” سيروس “، سوى في سنة 707م، حيث وجه الوليد بن عبدالملك قوات له إلى مدينة الجرجومة “مراش” ودمرها، وأنزل الجراجمة النصارى من الجبل إلى مناطق السهول وألبسهم لباس الإسلام، وأسكنهم جبل الحوار “هاوار” ، وسنح اللولون “سمعان”، وعمق تيزين في العمق. كما هجر بعضهم إلى حمص، / فتوح البلدان، ص 163 و 165/. أي أن جبلي هاوار وليلون من منطقة عفرين الحالية صارا مستقرا لبعض هؤلاء الجراجمة الحثيين.
وتقول المصادر التاريخية والكتب الدراسية في سوريا، إن المارونيين في لبنان هم أحفاد هؤلاء الجراجمة. ويستدل على ذلك بقصة ولادة مار مارون وحياته ووفاته في منطقة عفرين الحالية، وقصة تحويله سكان جبل ليلون إلى الدين المسيحي، وكان لسكان جبل ليلون وجبل الأكراد في تلك الفترة، صلات انتماء وقرابة مع الشعوب الجبلية، ومنهم الحثييون بطبيعة الحال، الذين أُسكِنَ بعض الجراجمة بينهم وفي مناطقهم.
ج – في العهد العباسي 750- 1256م:
في بداية هذا العهد اتضحت الأمور أكثر، وترسخت الحدود بين الدولتين العباسية والبيزنطية، وسميت مناطق سيروس والحواضر الحدودية في الشمال بالثغور والعواصم
في عام 944م، أسس سيف الدولة الحمداني إمارته في حلب، وأخضع شمالي سوريا لسلطته. وكانت سنوات حكم الحمدانيين فترة حروب وغارات مستمرة مع البيزنطيين، فتحولت مناطق جبال سمعان “ليلون” والكرد إلى خطوط تماس حدودية بين الدولتين. ففي عهد سعد الدولة الحمداني كان خط التماس الحدودي يمر من قرى
باسوفان وكيمار وبرصايا “قسطل علي جندو” وينتهي في مردج دابق، /كتاب اليواقيت والضرب، ص128/. وبين أعوام 962 و 985 م، تبادل الحمدانيون والبيزنطيون السيطرة على حلب وانطاكية عدة مرات. وفي هذا العام الأخير، استعاد سعد الدولة كنيسة سمعان من البيزنطيين وكانت قلعة حصينة. وانتهت الدولة الحمدانية في حلب سنة 1001م، بسيطرة المرداسيين عليها، وتأسست الإمارة المرداسية فيها
تداول حكم حلب بعد هذه الفترة بين المرداسيين والفاطميين حتى عام 1079م، حينها استولى عليها السلاجقة وجعلوها أحد المراكز الرئيسية لحكمهم. وفي عام 1082 جمع مسلم بن قريش العقيلي صاحب حلب والموصل قبائل من العرب والأكراد، وأستعاد بها حلب وبعض الحصون من السلاجقة، كما قبض على ولدين لمحمود بن مرداس وأخذ منهما قلعة أعزاز.
أما انطاكية فقد استعادها سلطان السلاجقة سليمان بن قتلميش من البيزنطيين سنة 1084م، ودارت بينه وبين مسلم بن قريش العقيلي، معركة في موقع “بئر راحل”. قرب نهر عفرين للسيطرة على حلب، انتصر فيها سليمان وتمكن من قتل مسلم في المعركة، لكنه عجز من السيطرة على حلب.
وفي سنة 1105م، سقطت انطاكية بيد الصليبيين في حملتهم الأولى، فأسسوا فيها إمارة لهم، وخضعت مناطق جبل الأكراد لحكمهم فترة طويلة من الزمن، وقعت فيها وقائع عديدة بين الصليبيين أمراء الرها وانطاكية وبين السلاجقة، إلى أن تحول حكم حلب سنة 1128م إلى عماد الدين زنكي، فبدأت معها فترة حكم الزنكيين في حلب وبلاد الشام.
د – الفترة الزنكية
اتسمت الفترة الزنكية أيضاً بالحروب المستمرة مع الصليبيين، إذ كانت الغارات المتبادلة تأخذ مسارين، الأول: المناطق الخاضعة لإمارة الرها الصليبية في شمال حلب، وهي مناطق أعزاز وجبل الأكراد، وسيروس، والراوندان، وعنتاب امتدادا إلى الشمال والشرق. والثاني: محور حلب وحارم وانطاكيا باتجاه المناطق التابعة للإمارة الصليبية في انطاكية.
أستولى عماد الدين زنكي في عام 1145م على الرها عاصمة الإمارة الصليبية وممتلكاتها شرقي الفرات، إلا أن “جوسلين الثاني” الصليبي أمير الرها بقي مسيطرا على مناطق الإمارة غربي الفرات، وكان من حصونه وقلاعه
“أعزاز، قورس، راوندان، دلوك “عنتاب”، مرعش، نهر الجوز…”، إلا أن نورالدين تمكن من احتلال هذه القلاع عام 1155م. وفي سنة 1164م استعاد حارم أيضاً من الصليبيين، ولكن بقي الطرفان يتناوبان السيطرة علي مناطق مثلث سيروس، وذلك على ضوء التقلبات السريعة والمتلاحقة في الأوضاع السياسية والعسكرية التي كانت من سمات تلك المرحلة.
هـ – الفترة الأيوبية:
في 1175م انتقل حكم شمالي سوريا من الزنكيين إلى الأيوبيين ، فقد توجه صلاح الدين إلى أعزاز وفتحها بعد حصار دام شهرا كاملا، وسلمها إلى ابن أخيه تقي الدين عمر، وفتح عنتاب في سنة 1182م. وفي سنة 1188م استعاد قلعتي “دربساك وبغراس” المجاورتين لانطاكية من الإفرنج، وسلم أمرها إلى صاحب أعزاز “علم الدين سليمان بن جندر”. وبعد وفاة السلطان صلاح الدين سنة 1193م، تولى ابنه الملك الظاهر “غياث الدين” حكم حلب وتوابعها مثل حارم واعزاز وتل باشر ودربساك وغيرها، إضافة إلى جميع مناطق سوريا الشرقية. وفي عام 1240م استلم الملك الحافظ ارسلان شاه بن الملك العادل الأيوبي حكم اعزاز وتوفي فيها في العام التالي. واستمر الأمر بيد الأيوبيين إلى مجيء التتار بقيادة هولاكو، فاستولى على أعزاز وحارم مرورا بجبل الكرد سنة 1258م.
ذكر الغزي ص 291، أن الأيوبيين أشادوا في أعزاز جامعا كان يسمى في أيامه بالجامع الكبير، وقد ذكر ما هو كان مكتوبا على باب الجامع (( بسم الله الرحمن الرحيم في سنة 644 هـ /1246م أمر بعمله مولانا السلطان العالم العادل الملك الناصر صلاح الدنيا والدين يوسف بن الملك العزيز محمد بن الملك الظاهر غازي بن أيوب ناصر أمير المؤمنين خلد الله ملكه)).
6- منطقة سيروس في الفترة المملوكية 1260-1516:
أ: الإمارة المندية
كان الأيوبيون قد منحوا ناحية القصي في سهل العمق لأمير كردي يسمى “مند”، فأسس مند إمارة عرفت في المصادر التاريخية بـ “إمارة كلس وأعزاز” ، في منطقة مثلث سيروس، أي كامل منطقة عفرين الحالية إضافة إلى نواحي حارم، وشمالي سهل العمق وأعزاز وكلس، وإمتدادات جبال الكرد شمالا داخل الحدود التركية الحالية.
ولعل خير من أرخ لهذه الإمارة ، وتطرق لشؤونها هو “شرف خان البدليسي” ، في مؤلفه المشهور /شرفنامة- سنة 1596م/، فقد عاصر الإمارة، وكان قريبا من الباب العالي العثماني، ومطلعاً على أحداث الإمارة ووقائعها.
يقول شرفخان عن الأمير “مند” ونسبه: أن المنديين أبناء عمومة لحكام هكاري والعمادية (في كردستان العراق). فشمس الدين من أسرة حكام هكاري، وبهاء الدين من حكام العمادية، ومنتشا أو مند شاه مؤسس إمارة كلس، كانوا ثلاثة اخوة.
فإن “مند” كان قد جمع في بدء ظهوره قوة من العشائر الكردية، لازم بها السلاطين الأيوبيين، فأنعم عليه أحدهم ناحية “قصير-انطاكية” وقلعتها كسنجق ليقيم بها مع أتباعه. فلحق به الأكراد القاطنون في جورم “هكذا ذكرها شرفخان، ولاشك أن شرفخان قصد بها الأكراد الذين كانوا يقطنون سهل جوم وكلس أيضاًّ”. ثم اجتمع حوله من الأكراد الإيزدية في تلك النواحي الكثيرون، فعلا شأنه، وأخذ يتدرج في توسيع نفوذه ليمتد إلى سهل جومه ومناطق جبل الأكراد وأعزاز وكلس، وأنشأ إمارة في كلس ، ثم عطف عليه السلطان الأيوبي، وولاه على كافة الأكراد القاطنين في ولايتي الشام وحلب.
نازع الأمير مند في إمارته في أوائل عهده فئة من الشيوخ الإيزدية الساكنين بين حماه ومرعش، فنشبت بينهما حرب امتدت أياما، انتصر فيها “مند”، ثم أخضع هؤلاء لأمره باللطف تارة، وبالقسر تارة أخرى. فدان له جميع الأكراد في تلك الأنحاء، ولما جاءته المنية، خلفه ابنه “عرب بك”، وبعد وفاة عرب بك، خلفه ابنه الأمير جمال، وحين وفاته قام ولده أحمد بك بن الأمير جمال مقامه.
انتهت دولة الأيوبيين في حلب على يد المغول سنة 1261م ، باحتلال هولاكو لكافة مناطقها، مثل أعزاز ونواحي جومه وج.الكرد وسهل العمق ومدينة حارم سنة 1259م، ولكنهم ما لبثوا أن تراجعوا إلى هضبة إيران سنة 1260م بعد معارك مع المماليك البحرية.
وكان أحمد بك في تلك الفترة حاكما على إمارة الأكراد في كلس، كما ذكرنا آنفا، ولما انتقلت كافة حكومات الأيوبيين إلى المماليك، أبى أحمد بك المندي الإذعان لهم وبقيت الإمارة محتفظة باستقلالها، يحكمها أمراء الأسرة المندية إلى حين استلام المماليك البرجية الحكم في سوريا ومصر سنة 1380 ميلادية.
وفي نهاية عهد المماليك البرجية كان “قاسم بك” من أحفاد الأمير “مند” يتولى زمام حكم الإمارة وأكرادها، وكان ذا بأس ودهاء، فأراد سلاطين المماليك عزله وإناطة حكومة الأكراد بالشيخ عزالدين من أكراد سلالة الشيوخ الإيزدية. فأذعن لأمره بعض الأكراد الإيزديين، وسار عزالدين في أتباعه، مع قسم من جند حلب المملوكي، لإقصاء قاسم بك. فنشبت بينهم معارك، أسفرت عن إخفاق الجيش المملوكي وقوات الشيخ عزالدين، وانتصر قاسم بك فيها، وحافظ بذلك على استقلال إمارته كاملا.
– منطقة مثلث سيروس في الفترة العثمانية 1516-1918م
- الفترة ما بين 1516-1607م:
عندما أزمع السلطان سليم الأول على قتال المماليك الجراكسة في الشام ومصر، عرض قاسم بك أمير كلس بالاتفاق مع خيري بك الجركسي الطاعة عليه، وحظيا بزيارة السلطان. وحينما احتل السلطان سليم تلك البلاد، حمل قاسم بك معه ابنه جان پولات – وكان يومئذ في الثانية عشرة من عمره – وسار به مع الموكب السلطاني نحو الأستانة. وفي تلك الآونة، قصد الشيخ عزالدين ديوان أمير لواء حلب العثماني أحمد بن جعفرالمشهور بـ”قراجه باشا”، وتمكن بواسطة بعض المتنفذين من إغرائه وحثه على الوشاية بالأمير قاسم. فعرض قراجه باشا مساوئ قاسم بك على ملازمي السدة السلطانية، وبالغ في الوشاية به، فصدر الأمر السلطاني بقتل قاسم بك، ونفذ فيه الأمر. أما ولده “جان پولات” فقد احْتُفِظَ به في بلاط السلطان سليم وعني بتربيته ورعايته.
بعد مقتل قاسم بك، تولى شقيقه “حبيب بك” أمر حكم أكراد المنطقة، إلا أن “قره جه باشا” دعاه إلى حلب، وقتله فيها غدرا بصلبه تحت قلعتها بتهمة أنه جمع بين تسع نسوة في آن واحد. وذكر الغزي أن ذلك كان سنة 922هـ/1516م، وبأن حبيب بك ابن عربو هذا كان من طائفة معتبرة من أمراء القصير “المنديين”.
كما جاء في كتاب عبدالرزاق الحسني – اليزيديون – أنه جاء في كتاب ” درر الحبب، للرضي الحنبلي” أحد رجال القرن العاشر للهجرة أن: عزالدين بن يوسف الكردي العدوي، أمير لواء حلب في آخر الدولة الجركسية وأوائل الدولة العثمانية، كان من طائفة ينتسبون إلى طائفة شيخ عدي بن مسافر رضي الله عنه، ويعرفون ببيت الشيخ مند… وفي أيامه صلب الأمير حبيب بن عربو تحت قلعة حلب، وذلك أنه كان بين الأمير عزالدين وبين أولاد عربو… عداوة بينة لأسباب دينية ودنيوية. لأن بيت عربو كانوا من أهل السنة… وبيت الشيخ مند كانوا إيزدية… /ص 18/.
بعد ذلك، أسندت، إمارة الأكراد من قبل ديوان السلطان سليم، إلى الشيخ عزالدين المذكور. وبعد وفاة الشيخ عزالدين، لم يكن بين أولاده وذوي قرابته الرجل الكفء لإدارة شؤون الحكومة فيها، فأُضيفت الإمارة إلى الخواص السلطانية في إنطاكية، وأُنيطت حكومة الأكراد فيها بالملك محمد بك من سلالة حكام “حصنى كيفا” الأكراد.
بعد انتقال زمام السلطنة إلى السلطان سليمان “القانوني” 1520-1566. أخرج جان پولات بك من البلاط السلطاني، وأُدخل في تشريفات الباب العالي. ولما ظهرت منه في بعض المعارك أعمال جليلة، استحق بها عطف السلطان، واستدعى ذلك منحه حكومته التي ورثها من آبائه وأجداده. بيد أن السلطان سليمان خاف من أن يؤدي رجوعه إلى إثارة الأكراد، فأنعم عليه تولية الحكم في أحد السناجق التابعة لولاية حلب، لكن جان پولات بك لم يرض بها، فأسند حكم الإمارة إلى “حسين خان الخادم”، وفوض إليه القيام بتفحص أحوال الأكراد في إيالة كلس، وإمكانية منح حكومتها الوراثية لجان پولات بك. وبعد أن درس حسين خان الحالة، رفع إلى السلطان تقريراً جاء فيه:
((إذا لم تسند إمارة الأكراد في هذه المنطقة إلى جان پولات بك، فليس هناك من يستطيع القيام بمهام حكومتهم، وإخماد الثورات والفتن بينهم، والقضاء على أشقاتهم. ولا يأمن السكان وأبناء السبل والمارة من حلب وسائر الولايات العربية مكرهم… )) فأدى هذا التقرير إلى أن ينعم السلطان بإيالة كلس وملحقاتها على جان پولات بك، فأدار شؤونها بدراية وحزم
توفي جان پولات بك سنة 1572 عن عمر تراوح بين 90-100 سنة، وخلف عدداً كبيراً من الأولاد عرفت أسماء عشرة منهم وهم: حبيب وعمر وأحمد وعبدالله وحسين وجعفر وغضنفر وزينل وحيدر وخضر، وكلهم حملوا لقب ” بك”.
بعد وفاة جان پولات، تولى ولده جعفر حكم كلس بموجب وصية والده والعهد الصادر من ديوان السلطان مراد. وبعد مرور أربع سنوات على حكمه، كان مصطفى باشا السردار قد اتجه إلى منطقة شيروان في كردستان ليحتلها، فعزم جعفر بك على الالتحاق به، وسار إلى دياربكر، غير أنه لما بلغ جبل ” قره جه داغ الواقع بين سيورك ودياربكر”، سقط عن حصانه ولقي حتفه.
أما حبيب بك فقد كان قد تعرض إلى الكثير من الظلم على يد أخيه جعفر مع حرمانه من الميراث بموجب وصية والده. ولكنه كان صلب العود، يثأر لنفسه، فبعث من يتظلم له في ديوان السلطنة، وحظي بمقابلة الوزير الأعظم محمد باشا. ولكي يقطع هذا الأخير دابر النزاع، منحه سنجق نابلس من أعمال الشام، إلا أن حبيب بك لم يرض بذلك، والتمس منحه إيالة بالس (مسكنة) من أعمال حلب، وكانت تحت تصرف شقيقه حسين بك، وتحقق له ذلك. ولما بلغ حسين بك هذا الأمر، أوفد إلى الأستانة من استصدر أمراً بإلغاء الأمر السابق وبعزل حبيب بك. فلما سمع حبيب بك بذلك، قصد أعتاب السلطان مراد حاملاً معه خمسة آلاف دينار ذهب ليهديها إلى شيخ السلطان الخاص، وعرض عليه أن يتوسط لدى السلطان لإعطائه حكومة كلس. فأدى توسط الشيخ إلى أن يصدر الأمر بمنحه سنجق سلمية في إيالة حلب. غير أنه لم يرض بها، وأمام إلحاحه على الشيخ، صدر الأمر السلطاني بمنحه إيالة كلس، وأسند سنجق سلمية إلى أخيه حسين بك.
ظل حبيب بك يحكم كلس لمدة ثلاثة أعوام، إلى أن عزل وأسند حكم الإمارة إلى شقيقه حسين بك، فبقي على حكمها سنين عديدة بالاستقلال التام. كما نال منصب ميرميران “أمير الأمراء” في طرابلس الشام سنة 1592م، إضافة إلى حكومة كلس، ومنح لقب باشا، وأصبح ذا مكانة ونفوذ.
وفي بداية حكم الأمير حسين جان پولات، جاءت انكشارية دمشق بدعوة من السلطنة لقتال الثائرين المعروفين بالجلالية في شمالي حلب. وحدث بينهم وبين الحلبيين نزاع شديد، فأحضر قاضي حلب يحيى أفندي علماء حلب وأمراءها وكتبوا إلى حسين باشا– كافل كلس- يطلبون حضوره ليصلح بينهم وبين انكشارية دمشق. فحضر حسين باشا بعساكر كثيرة، وحاول إخماد الفتنة، إلا أن الانكشاريين نقضوا الاتفاق أكثر من مرة، فغادر حسين بك حلب بعساكره قائلا من غيظه: سلط الله الكلاب على البقر، /الغزي،ج3، ص211/. فسيطر الانكشاريون على حلب ومارسوا فيها الكثير من الظلم.
وفي عام 1602م عين نصوح باشا واليا على حلب، وبعد مدة وجيزة حصل بينه وبين الانكشارية واقعة عظيمة ساعده عليهم حسين باشا ففروا إلى حماة. ثم جمعوا وحشدوا هذه المرة إلى كلس وحاصروها وخربوا ما حولها من القرى كالباب وأعزاز وقرى حلب، ونهبوا الأموال ودخلوا كلس وفعلوا فيها أفاعيل جاهلية( …، فاضطر حسين باشا ونصوح باش إلى قتالهم وإخراجهم من الولاية.
ولما صفا الجو لنصوح باشا، أثار شائعة بأن حسين باشا والي كلس عاص على الدولة ويعمل على قتله، وكان ذلك خلافا للحقيقة، فقد كانت الدولة تراعي حسين باشا نظرا لشهامته وشجاعته. كما أن بقاءه زمنا طويلا واليا على كلس لم يكن بسبب عصيانه، إنما كانت الدولة ترى بعض الصعوبة في عزله، وتخشى من وقوع فتنة من عشيرة الجان پولات إذا عزل، فكانت تغض الطرف عنه وتقنع منه بالمال. ولما بلغه تهديد نصوح باشاه، أخذ في جمع عساكره والتقيا خارج كلس فهزم نصوح باشا ورجع إلى حلب. وأخذ بالاستعداد ثانية لمحاربة حسين باشا. وبينما هو كذلك، ورد إلى حلب أمر من قبل السردار “الصدر الأعظم” سنان باشا بتعيين حسين باشا كافلا للممالك الحلبية وعزل نصوح باشا. فغضب نصوح باشا غضبا شديدا وامتنع عن تسليم حلب لحسين باشا قائلا: إذا ولوا عبدا أسود فإني أطيعه إلا ابن جان پولات. وكتب إلى الدولة أن أمراء العشائر لايصلحون أن يكونوا ولاة للدولة. ولم يمض سوى أسبوع إلا وأقبل حسين باشا على حلب، فاضطر نصوح باشا إلى التحصن وراء أسوارها بعد قتال جرى بينهما. وحاصر حسين باشا حلب مدة أربعة أشهر، فتدخل بينهما القاضي شريف أفندي وأقنع نصوح باشا بالخروج من حلب بكامل هيئته بعد أجراء الصلح بينهما عام 1604م، /كامل الغزي ج3/.
في سنة 1605م، رافق حسين باشا الصدر الأعظم ” جغاله زاده سنان باشا ” لقتال الفرس. ولما انهزم العثمانيون فيها، غادر بعض الأمراء الأكراد المعسكر العثماني. حينها اتهم سنان باشا حسين باشا بأنه تباطأ في اللحاق به فقبض عليه في ” وان “، وخنقه وقطع رأسه، وعين محله في ولاية حلب أخاه علي بك ..
ولما سمعت عشيرة حسين باشا بنبأ مقتله، ثارت فيهم الحمية، لاسيما ابن شقيقه علي بك الذي كان وكيله في غيبته، فأعلن مع عمه خضر “خزر” بك الثورة على الدولة العثمانية، وجمع حوله أخلاط الناس، وتغلب على حلب واستقل بها، كما قتل والي حلب الجديد المعين من قبل السلطان حسين بك في مدينة “أذنة”، بالاتفاق مع واليها جمشيد باشا الذي كان خارجا هو أيضا على السلطان. فأرسل الأمير يوسف ابن سيفا صاحب عكا إلى باب السلطنة رسالة يطلب فيها أن يكون أميرا على عسكر الشام، والتزم بإزالة ابن جان پولات في حلب، فجاءه الأمر على ما التزم. فجمع عساكره والتقى مع ابن جان پولات قرب حماة، فانكسر ابن سيفا وفر إلى دمشق. وسار ابن جان پولات إلى طرابلس واستولى عليها. وفي عام 1606م التقى ابن جان پولات مع عسكر الشام قرب دمشق، وتغلب عليهم وتقدم للاستيلاء على دمشق، فصالحه أهلها لقاء مبلغ من المال، فرحل عنهم عائدا إلى حلب. وفي طريق عودته، صالح ابن سيفا وصاهره، وبذلك وسع علي بك حدود حكمه من أذنة إلى غزة، كما استولى على كردستان
وفي عام 1607م عقد معاهدة مع ” أرشيدوق فرديناند “، ملك حكومة توسكانا، إحدى الدويلات الإيطالية. وأقُرِئَت الخطبة باسمه، وصك النقود، وأنشأ جيشاً قوياً، وأعلن الاستقلال التام عن الدولة العثمانية.
كانت الحكومة العثمانية تواجه ثورة الجلاليين بالأناضول، وتمرد المعنيين في لبنان، فأرسلت الصدر الأعظم “قويوجي مراد باشا السردار” على رأس قوة كبيرة لقتال العصاة، فأبادهم في أذنة وسيواس. ثم قصد حلب. ولما بلغ خبره مسامع ابن جان پولات، وضع أثقاله بقلعة حلب وحصن أسوار البلد وتأهب لملاقاة عسكر مراد باشا، ثم أرسل فرقة من جنوده لتحصين جبل بغراس ليمنعوا العسكر العثماني من المرور. غير أن مراد باشا لم يأت من هذا الطريق الضيق، إنما من جبل “قاز” فلم يشعر ابن جان پولات إلا وعساكر الوزير قد داهمته. ودارت الحرب يوم الثلاثاء رجب سنة 1016 هـ/ شهر تشرين الأول 1607م بين سلاسل جبال طوروس، بجوار بيلان، في موقع يقال له “سهل الروج”. وكان قد انضم إلى الوزير، حاكم “مرعش” ذو الفقار رستم باشا ومعه أربعون ألف كردي من أكراد دلغادر “ذو القدرية” ، ، إضافة إلى الجيش العثماني الأصلي، لمواجهة علي باشا ابن جان پولات ، الذي كان بدوره قد أعد قوة قوامها أربعون ألف جندي. ولما اشتبك الجيشان، كادت الغلبة أن تكون لعلي بك، ثم عادت الكرة عليه، وكانت النتيجة هزيمته في المعركة، وقتل من عسكره نحو 27 ألفاً. فانسحب علي بك إلى مسقط رأسه كلس أولا، ثم غادرها إلى حلب مع بعض رؤساء عسكره، وبقي فيها ليلة واحدة ثم غادرها. أما مراد باشا فإنه في ثاني يوم من الواقعة سار إلى كلس للبحث عن علي بك فضبط جميع أمواله، وتوجه منها إلى حلب واستخلص القلعة من أعوان ابن جان پولات، وحجز جميع أمواله.
أما علي بك، فقد غادر إلى ملاطيه ومنها إلى المدعو “الطويل” الخارج على الدولة في بلاد الأناضول وأراد أن يتحد معه، فلم يوافق الطويل على طلبه قائلا له: ” أنا وإن كنت أسمى بالعاصي، لكني لم أصل إلى مرتبتك “. ثم توجه إلى بورصة واتصل بحاكمها وعرفه بنفسه، وقال له: لقد ضجرت من العصيان، فأوصلني بالسلطان. فساعده في ذلك، ولما سأله السلطان: ما سبب عصيانك؟ قال ما أنا بعاص، إنما اجتمعت علي فرق الأشقياء وما خلصت منهم إلا أن ألقيتهم في فم جنودك وفررت إليك فرار المذنبين، فإن عفوت فأنت أهل لذلك، وإن أخذت فحكمك الأقوى. فعفا عنه السلطان أحمد الأول 1603-1617م وعينه أمير أمراء لإيالة طمشوار في يوغسلافيا الحالية ، وأودع أمه وابنه لدى السلطان. أما ابنه فقد أُدخل إلى المدرسة السلطانية الخاصة داخل السراي.
لكن يبدو أن هذا العفو لم يرق لـ “مراد باشا”، أما الغزي فيقول أنه عاد وجاهر بالعصيان، فأرسل مراد باشا من يقتل علي باشا في قلعة بلغراد، ثم أرسل رأسه إلى باب السلطنة. وكان ذلك في حدود سنة 1611م. وبذلك أسدل الستار على هذه الإمارة الكردية، وقضي على الأسرة المندية التي أسست الإمارة وحكمتها من مركزها الإداري مدينة كلس مدة تقارب أربعة قرون.
بعد مقتل علي باشا، تمكن أفراد من الأسرة الجان پولاتية النجاة من شر ” قويوجي مراد باشا”، والاختفاء في جهات حلب وكلس. ثم التحق سعيد بك جان پولات سنة 1630م بالمعنيين الدروز أمراء لبنان ” التي كانت لأسرته معها روابط قديمة. حيث يقال أن الأسرة المندية، اعتنقت المذهب الدرزي منذ أيامها الأولى في جهات حلب “، /موصلي، ج1 ص490/، ومن سعيد بك هذا تنحدر الأسرة الجنبلاطية الحالية في لبنان. ومن المفيد أن نذكر هنا، أنه لا تزال هناك سبع عشرة قرية درزية في منطقة حارم، يؤكد أهلها على أصلهم الكردي .
وعن عشيرة الجان پولات، جاء في “در الحبب”، أنهم كانوا في مبدأ أمرهم منحرفين عن السنة. أما مصطفى نعيم الحلبي فقد قال عنهم “بحسب رواية الشيخ كامل الغزي”: أنها من عشائر الأكراد في سنجق كلس قرب حلب، وإن حسين باشا كانت له أعمال تستحق الذكر، لأن الدولة العثمانية كانت تأمره بالسفر شرقا وغربا فيسرع الإجابة هو وعشيرته ويبلي في أعدائها بلاءً حسنا.
ب – الفترة العثمانية ما بين 1607 و 1918:
بعد القضاء على حكم الأسرة المندية، أُلحقت إمارة كلس سياسيا وإداريا بولاية حلب، وعين على حكومتها رجال وموظفون بأمر من الأستانة. وفي بعض الأحيان كان يتسلم شؤونها من يسمون Derebeg وهم الإقطاعيون المحليون. وفي فترة لاحقة أصبحت كلس سنجقاً يدير شؤونها سنجقدار، أو حاكم يعين من قبل والي حلب، ثم سميت قائمقامية سنة 1854 يقوم على شؤونها قائمقام.
يذكر الباحث الفرنسي روجيه ليسكو أنه بعد مقتل علي باشا جان پولات، أرسلت الأستانة عام 1620م كرديا “من عشيرة برواري من فرع روباري كان ذا مكانة في إستانبول، إلى كلس لتولي الحكم فيها. وبعد عزله أو وفاته، استقر أولاده وأحفاده في جبل الأكراد، وسكنوا قلعة باسوطه، ثم عملوا على الاستقلال بوادي عفرين، ودامت سلطتهم فيها حوالي قرن من الزمن.
وجاء في كتاب تاريخ كلس، /ص36-84/ ما يلي:
في عام 1724، استلم Aşiqli ‘Elî Aĝa علي آغا العاشق رئاسة حكومة كلس بالوكالة لمدة سنتين. وكان عهده حافلاً بالمشاكل، إذ قام الأهالي بالثورة عليه، مما جعله يستعين بقوات من حلب، فتمكنوا من إخماد ثورتهم، وقتل كل من له علاقة بالعصيان من أمثال عابدين آغا، وأوربارلي أوغلوا إسماعيل آغا “إسماعيل آغا غباري”، فعاد الاستقرار إلى المنطقة. كما استغل بعض الأكراد والعرب سنة 1739 م انشغال السلطنة بالحرب مع الروس وراحو يعتدون على بعض قرى أدلب، /فايز قوصرة، ص244/.
وفي سنة 1740، استلم بطال آغا حكم كلس لمدة عام واحد، وحدثت مشاكل بين الحكومة وأهالي جبل الكرد، فاقتحم الأكراد كلس مرتين، وسببوا خسائر كبيرة للناس، وأسروا مائة شخص من الأهالي. وهذا التاريخ يتفق مع ما ذكره “ليسكو” من أن الكنجيين – نسبة إلى كنج الذين ينتمي إليهم بطال آغا – كانوا قد وفدوا إلى جبل الأكراد سنة 1736. حيث يبدوا أنهم تمكنوا من السيطرة على قلعة باسوطة من آل غباري فيما بعد، واستلم بطال آغا كنج حكم
كلس، كما ذكر آنفا. وقد تكون للمشاكل بين حكومة كلس والأكراد – التي نوه إليها “القادري في كتاب تاريخ كلس”- علاقة بالنزاع بين عائلتي كنج وغباري وتعاطف الناس مع آل غباري حكام كلس السابقين.
وفي عام 1747، اعتبرت كلس وأعزاز سنجقا واحداً، وسلم حكمها سنة 1752 إلى المدعو Sari ‘Ebdireĥman paşa عبدالرحمن باشا الأشقر، ودام حكمه عامين فقط، استبد فيها بالناس وكان يقتل الناس على مزاجه، ويقطع رؤوسهم ويرميهم في مكان كان معروفاً. وفي هذه الفترة وبسبب انشغال الدولة بالحرب مع إيران، راح الأكراد والتركمان ينشطون في مناطق حارم والروج ودركوش المجاورة لكلس، فتدخل السلطان شخصيا لردعهم بقوة السلاح، /ف. قوصرة، ص247/.
وفي عام 1780 استلم محمد آغا الكردي حكم كلس حوالي ستة أشهر، وكان له الكثير من المعارضين ، فاستنجد بعبدي باشا -أحد المتنفذين في نواحي حلب- فسلب الناس وظلمهم، فقام الناس عليه وعزلوه وعينوا “ابن قره ملا” بدلا منه.
أما محمد باشا دالدابان أوغلو([30])، فهو من المعروفين في تاريخ كلس. وكان شخصا جسورا وذكيا، وكان صاحب الأمر والنهي لفترة في جميع أنحاء كلس، واستطاع سنة 1783 أن يتسلم رئاسة حكومتها، بل إن الدولة نفسها عهدت إليه سنة 1784 باشلكية “مرتبة تماثل قائمقام” كلس وأعزاز، وتصرف كمالك لها. واستمر حكمه سبع سنوات، أسس خلالها إمارة شبه مستقلة، وغزا أطراف الإمارة، ووسع أملاكه أضعافا. وبالاشتراك مع سكان كلس والأكراد والتركمان والعرب وعشيرة رشوان “الكردية” قام بغزو عنتاب وحلب. وخفف كثيراً من الضريبة السنوية على الفلاحين، إذ كان يكتفي بالزبيب والدبس من الفلاحين الأكراد مقابل الضريبة السنوية. كما أوجد ضريبة على الحيوانات، وأخذ عن كل بغل أو جمل أو حيوان ركوب، قرشاً واحداً. ولكنه قتل عام 1795 في عنتاب، حينما تدخل في خلاف بين الحكومة والأهالي، فعين ولده محمود باشا حاكماً لكلس مدة عامين.
ثم استلم حكومة كلس سنة 1801 مصطفى بك توبال أغلو، وأسس إمارة كاملة، ولكنه استبد بالناس، فقام الأهالي بقتله والتخلص منه.
وفي السنة نفسها أي 1801م، سلمت كلس إلى أومر آغا آل عمو. إلا أن أحد حكامها السابقين، وأحدهم المسمى إسماعيل آغا “ويعرف بـ: آغا معجون” تمكن من السيطرة عليها ثانية لفترة من الوقت. أما “أومر آغا” ولكونه كرديا –حسب تعبير القادري- استطاع تحريك الأكراد، ومهاجمة كلس، وحاصرها لمدة ثلاثة اشهر، وقلع أشجار الزيتون من حولها، إلا أنه فشل في انتزاع حكمها ثانية.
وفي عام 1810 عين فضلي آغا حاكما لكلس، فظلم فضلي آغا الناس واستبد بهم، ولكن وصول قوات إبراهيم باشا “المصري” إلى كلس، أنهت حكمه.
في تلك الفترة، كان بطال آغا الثاني، ابن بطال آغا كنج، حاكم كلس الأسبق، قد دانت له الأمور في سهل جومه ومناطق جبل الأكراد وسمعان، فأقام في قلعة باسوطه حكما محليا، وجمع حوله الأكراد في تلك الأنحاء وخاصة الأكراد الإيزيدية، ووسع منطقة نفوذه، حتى وصل إلى أطراف حلب وحصل على الضريبة منها، وحكم المنطقة باستقلال تام عن الإدارة العثمانية. وبقيت الأمور بيد آل عمو وكنج حتى مجيء جيوش إبراهيم باشا بن محمد علي باشا من مصر، واحتلالها سوريا ومناطق واسعة غربي نهر الفرات شمالاً.
في تلك الفترة، حدث خلاف بين إبراهيم باشا وبطال آغا على صلاحياته ونفوذه في مناطق شمالي حلب، فهدده بطال آغا بالقتال. ولكن بدلا من الشروع في الحرب، عمد إبراهيم إلى الحيلة، فاستدعى بطال آغا من خلال بعض الوسطاء إلى حلب، بدعوى إصلاح ذات البين بينهم. وهناك اعتقله إبراهيم باشا وجرى إعدامه مع ولده “إيبش” وحامل أسلحته “سلاح دار” أو Çerxcî المدعو “علي من عائلة شندي” من قرية معراته. وذلك في العقد الثالث من القرن التاسع عشر.
ومن الجدير بالذكر، أنه كانت هناك علاقة قائمة بين بطال آغا ومحمد علي باشا والي مصر قبل بدء الأخير بحملته على الجيوش العثمانية في سوريا. فهناك أغنية تراثية محلية قديمة عن بطال آغا تتحدث عن زيارة له لمصر والتقائه بمحمد علي باشا وضباطه ووزرائه. وبالقضاء على تمرد بطال آغا كنج، استطاع إبراهيم باشا والعثمانيون إخضاع الأكراد في سهل جومه لسلطتهم إلى حين.
ج- دور حج أومر وأولاده:
من المعروف أن لآل حج أومر الذين يقيمون حاليا في نواحي ديرسوان، موقعاً هاماً في تاريخ كلس. فمؤسس هذه العائلة يدعى حج أومر، وكان أحد زعماء قبيلة رشوان، وكان يقيم في قرية ” قوجانلي” التابعة لكلس. وفي سنة 1742م نال لقب Derebeg وعهدت الحكومة إليه بكوية Derebeglik جبل الأكراد.
وبعد وفاته خلفه ابنه حج محمد آغا في البكوية. وبعد وفاة حج محمد استلم ابنه ولي آغا بكوية ج.الكرد، وأصبح خلال فترة وجيزة صاحب قوة ونفوذ كبيرين، وأثار وضعاً من العصيان في مواجهة حكومة كلس. فساق رئيس حكومة كلس “حج إبراهيم العنتابي” سنة 1832 قوة من الجنود إلى ج.الكرد، ووقع قتال بينه وبين ولي آغا، إلا أنه لم ينتصر فيها. فأولت الحكومة أهمية كبيرة لمسألة ولي آغا، وأخذت القوات الحكومية تتعقبه باستمرار، مما أجبرته في النهاية على التواري عن الأنظار. لكنه منح العفو بعد أن التزم بشرط اشتراكه في معارك هامة لصالح الدولة، فسلمت إليه حكومة كلس مدى الحياة مكافأة لخدماته. فدام حكمه نحو عشر سنوات، أحسن خلالها الإدارة إلى تاريخ وفاته عام 1853.
بعد وفات ولي آغا، خلفه ابنه خليل آغا. في زعامة العشيرة، وبدأ تأسيس إقطاعيته، فاستطاع أن يهيمن على حكومة كلس والتحكم في أمورها في فترة قصيرة. وعندما تأسست قائمقامية كلس سنة 1854، وتم تعيين حبيب باشا قائمقاماً عليها، لم يوفق في أداء مهام وظيفته بسبب النفوذ القوي لخليل آغا وتدخله في كل شؤونها. ثم أخذ خليل آغا يبدي العصيان. فأرسلت الدولة قواتها، واشتبكت مع رجاله، فلم يستطع خليل آغا الصمود، مما اضطره إلى الاستسلام، فنفاه والي حلب إلى “أدرنه”. إلا أنه تمكن بعد فترة وجيزة من الهرب من منفاه وعاد إلى جبل الأكراد، ليستعيد نفوذ إقطاعيته من جديد.
فجاء هذه المرة والي حلب درويش باشا بقوات كبيرة. وجرت مفاوضات بينهما بوساطة مفتي كلس “محمد أفندي” الذي كان يكن الود لخليل آغا، فسلم خليل آغا نفسه، وبدل العفو عنه، نفاه الوالي إلى “قوزان”، وهي قرية في نواحي مدينة “إصلاحية”، فتوفي هناك سنة 1866، بداء الكوليرا كما قيل، ومنهم من يحكي، أنه غدر به من قبل العثمانيين، ويعتقد أن هذا هو الصحيح. وبوفاته انتهى دور آل حج أومر في حياة كلس وجبل الأكراد، وساد الهدوء في أرجاء نواحي حكومة كلس، وبسطت السلطات العثمانية سيطرتها عليها وعلى جبل الأكراد.
بعد هذه المرحلة، بدأت عرى العلاقات العشائرية بالتمزق في جبل الأكراد، وراحت تحل محلها نوع آخر من العلاقات والتنظيم الاجتماعي. فبدلا من الترتيب العشائري وزعيم العشيرة، ظهرت زعامات وعائلات إقطاعية، مستغلة قانون تسجيل الأراضي والعقارات العثماني، وقانون الطابو لسنة1861، الذي لم يكن يسمح بتسجيل الأراضي إلا باسم شخص واحد في كل قرية أو عدة قرى. فاستغل بعض المتنفذين جهل الفلاحين، وسجلوا قرى بأكملها كأملاك خاصة لهم، وبذلك تحول الفلاحون بين ليلة وضحاها إلى أجراء وعبيد لدى هؤلاء المتنفذين، ومنهم من كسب لقب الآغا الإقطاعي أيضا بعد عام 1882، وهو عام البدء بتحديد وتحرير الأراضي في الولايات السورية.
ومن أبرز العائلات الإقطاعية التي ولدت حديثا، أو انتعشت مجدداً على خلفيتها العشائرية القديمة في ظل الأوضاع الجديدة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، هي: آل شيخ إسماعيل، آل سيدو ميمي، آل عمو، آل غباري، آل كنج …وغيرهم. [وقد تناولتُ مفصل تاريخ عائلات جبل الكرد وعشائرها في دراسة أخرى ]. وأصبحت هذه العائلات صاحبة القوة والنفوذ في جبل الكرد إبان الحرب العالمية الأولى وفي زمن الاحتلال الفرنسي لسوريا أيضا. وقد نأت الفئة الإقطاعية الناشئة نفسها عن أية طموحات سياسية، وانحصر اهتمامها في امتلاك أكبر عدد من القرى والعقارات، وراحوا يمارسون سلطتهم على فلاحيهم بمعونة مباشرة من الموظفين العثمانيين والفرنسيين من بعدهم، كما رضيت تلك الفئة أن تكون جزءاً من الإدارات الحاكمة.
ومن الجدير بالذكر هنا، أنه في عام 1895 تمرد الأرمن القاطنون في نواحي كلس وعنتاب ومناطق أخرى على الدولة العثمانية، وقمعت حركتهم هذه بشدة.
http://www.medaratkurd.com/2016/12/%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%88%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D8%AF%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%B4%D9%85%D8%A7%D9%84-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7-2/#_ftnref29